فصل: باب رَفْعِ الصَّوْتِ بِالنِّدَاءِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب رَفْعِ الصَّوْتِ بِالنِّدَاءِ

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَذِّنْ أَذَانًا سَمْحًا وَإِلَّا فَاعْتَزِلْنَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب رفع الصوت بالنداء‏)‏ قال الزين بن المنير‏:‏ لم ينص على حكم رفع الصوت لأنه من صفة الأذان، وهو لم ينص في أصل الأذان على حكم كما تقدم، وقد ترجم عليه النسائي ‏"‏ باب الثواب على رفع الصوت بالأذان‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال عمر بن عبد العزيز‏)‏ وصله ابن أبي شيبة من طريق عمر عن سعيد بن أبي حسين أن مؤذنا أذن فطرب في أذانه فقال له عمر بن عبد العزيز‏.‏

‏.‏

فذكره، ولم أقف على اسم هذا المؤذن وأظنه من بني سعد القرظ لأن ذلك وقع حيث كان عمر بن عبد العزيز أميرا على المدينة، والظاهر أنه خاف عليه من التطريب الخروج عن الخشوع، لا أنه نهاه عن رفع الصوت‏.‏

وقد روي نحو هذا من حديث ابن عباس مرفوعا أخرجه الدار قطني وفيه إسحاق بن أبي يحيى الكعبي وهو ضعيف عند الدار قطني وابن عدي‏.‏

وقال ابن حبان‏:‏ لا تحل الرواية عنه، ثم غفل فذكره في الثقات‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْأَنْصَارِيِّ ثُمَّ الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ لَهُ إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبيه‏)‏ زاد ابن عيينة ‏"‏ وكان يتيما في حجر أبي سعيد وكانت أمه عند أبي سعيد ‏"‏ أخرجه ابن خزيمة من طريقه، لكن قلبه ابن عيينة فقال‏:‏ عن عبد الرحمن بن عبد الله والصحيح قول مالك ووافقه عبد العزيز الماجشون‏.‏

وزعم أبو مسعود في الأطراف أن البخاري أخرج روايته، لكن لم نجد ذلك ولا ذكرها خلف قاله ابن عساكر‏.‏

واسم أبي صعصعة عمرو بن زيد بن عوف بن مبدول بن عمرو بن غنم بن مازن ابن النجار، مات أبو صعصعة في الجاهلية، وابنه عبد الرحمن صحابي، روى ابن شاهين في الصحابة من طريق قيس بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه عن جده حديثا سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وفي سياقه أن جده كان بدريا، وفيه نظر لأن أصحاب المغازي لم يذكروه فيهم وإنما ذكروا أخاه قيس بن أبي صعصعة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن أبا سعيد الخدري قال له‏)‏ أي لعبد الله بن عبد الرحمن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تحب الغنم والبادية‏)‏ أي لأجل الغنم لأن محبها يحتاج إلى إصلاحها بالمرعى، وهو في الغالب يكون في البادية وهي الصحراء التي لا عمارة فيها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في غنمك أو باديتك‏)‏ يحتمل أن تكون ‏"‏ أو ‏"‏ شكا من الراوي، ويحتمل أن تكون للتنويع لأن الغنم قد لا تكون في البادية، ولأنه قد يكون في البادية حيث لا غنم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأذنت للصلاة‏)‏ أي لأجل الصلاة، وللمصنف في بدء الخلق ‏"‏ بالصلاة ‏"‏ أي أعلمت بوقتها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فارفع‏)‏ فيه إشعار بأن أذان من أراد الصلاة كان مقررا عندهم لاقتصاره على الأمر بالرفع دون أصل التأذين، واستدل به الرافعي للقول الصائر إلى استحباب أذان المنفرد، وهو الراجح عند الشافعية بناء على أن الأذان حق الوقت، وقيل لا يستحب بناء على أن الأذان لاستدعاء الجماعة للصلاة، ومنهم من فصل بين من يرجو جماعة أو لا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بالنداء‏)‏ أي بالأذان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يسمع مدى صوت المؤذن‏)‏ أي غاية صوته، قال البيضاوي‏:‏ غاية الصوت تكون أخفى من ابتدائه، فإذا شهد له من بعد عنه ووصل إليه منتهى صوته فلأن يشهد له من دنا منه وسمع مبادي صوته أولى‏.‏

قول ‏(‏جن ولا إنس ولا شيء‏)‏ ظاهره يشمل الحيوانات والجمادات، فهو من العام بعد الخاص، ويؤيده ما في رواية ابن خزيمة ‏"‏ لا يسمع صوته شجر ولا مدر ولا حجر ولا جن ولا إنس‏"‏، ولأبي داود والنسائي من طريق أبي يحيى عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ المؤذن يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس ‏"‏ ونحوه للنسائي وغيره من حديث البراء وصححه ابن السكن، فهذه الأحاديث تبين المراد من قوله في حديث الباب ‏"‏ ولا شيء ‏"‏ وقد تكلم بعض من لم يطلع عليها في تأويله على غير ما يقتضيه ظاهره، قال القرطبي‏:‏ قوله ‏"‏ ولا شيء ‏"‏ المراد به الملائكة‏.‏

وتعقب بأنهم دخلوا في قوله جن لأنهم يستخفون عن الأبصار‏.‏

وقال غيره‏:‏ المراد كل ما يسمع المؤذن من الحيوان حتى ما لا يعقل دون الجمادات‏.‏

ومنهم من حمله على ظاهره، وذلك غير ممتنع عقلا ولا شرعا‏.‏

قال ابن بزيزة، تقرر في العادة أن السماع والشهادة والتسبيح لا يكون إلا من حي، فهل ذلك حكاية عن لسان الحال لأن الموجودات ناطقة بلسان حالها بجلال باريها، أو هو على ظاهره‏؟‏ وغير ممتنع عقلا أن الله يخلق فيها الحياة والكلام‏.‏

وقد تقدم البحث في ذلك في قول النار ‏"‏ أكل بعضي بعضا ‏"‏ وسيأتي في الحديث الذي فيه ‏"‏ أن البقرة قالت إنما خلقت للحرث ‏"‏ وفي مسلم من حديث جابر ابن سمرة مرفوعا ‏"‏ إني لأعرف حجرا كان يسلم علي ‏"‏ ا ه‏.‏

ونقل ابن التين عن أبي عبد الملك‏:‏ إن قوله هنا ‏"‏ ولا شيء ‏"‏ نظير قوله تعالى ‏(‏وإن من شيء إلا يسبح بحمده‏)‏ وتعقبه بأن الآية مختلف فيها، وما عرفت وجه هذا التعقب فإنهما سواء في الاحتمال ونقل الاختلاف، إلا أن يقول إن الآية لم يختلف في كونها على عمومها، وإنما اختلف في تسبيح بعض الأشياء هل هو على الحقيقة أو المجاز بخلاف الحديث‏.‏

والله أعلم‏.‏

‏(‏فائدة‏)‏ ‏:‏ السر في هذه الشهادة مع أنها تقع عند عالم الغيب والشهادة أن أحكام الآخرة جرت على نعت أحكام الخلق في الدنيا من توجيه الدعوى والجواب والشهادة، قاله الزين بن المنير‏.‏

وقال التوربشتي‏:‏ المراد من هذه الشهادة اشتهار المشهود له يوم القيامة بالفضل وعلو الدرجة، وكما أن الله يفضح بالشهادة قوما فكذلك يكرم بالشهادة آخرين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلا شهد له‏)‏ للكشميهني إلا يشهد له، وتوجيههما واضح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال أبو سعيد سمعته‏)‏ قال الكرماني‏:‏ أي هذا الكلام الأخير وهو قوله إنه لا يسمع الخ‏.‏

قلت‏:‏ وقد أورد الرافعي هذا الحديث في الشرح بلفظ ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي سعيد إنك رجل تحب الغنم ‏"‏ وساقه إلى آخره، وسبقه إلى ذلك الغزالي وإمامه والقاضي حسين وابن داود شارح المختصر وغيرهم، وتعقبه النووي، وأجاب ابن الرفعة عنهم بأنهم فهموا أن قول أبي سعيد ‏"‏ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ عائد على كل ما ذكر ا ه‏.‏

ولا يخفى بعده‏.‏

وقد رواه ابن خزيمة من رواية ابن عيينة ولفظه ‏"‏ قال أبو سعيد‏:‏ إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالنداء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ لا يسمع ‏"‏ فذكره، ورواه يحيى القطان أيضا عن مالك بلفظ ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إذا أذنت فارفع صوتك، فإنه لا يسمع ‏"‏ فذكره‏.‏

فالظاهر أن ذكر الغنم والبادية موقوف، والله أعلم‏.‏

وفي الحديث استحباب رفع الصوت بالأذان ليكثر من يشهد له ما لم يجهده أو يتأذى به، وفيه أن حب الغنم والبادية ولا سيما عند نزول الفتنة من عمل السلف الصالح، وفيه جواز التبدي ومساكنة الأعراب ومشاركتهم في الأسباب بشرط حظ من العلم وأمن من غلبة الجفاء‏.‏

وفيه أن أذان الفذ مندوب إليه ولو كان في قفر ولو لم يرتج حضور من يصلي معه، لأنه إن فاته دعاء المصلين فلم يفته استشهاد من سمعه من غيرهم‏.‏

*3*باب مَا يُحْقَنُ بِالْأَذَانِ مِنْ الدِّمَاءِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما يحقن بالأذان من الدماء‏)‏ قال الزين بن المنير‏:‏ قصد البخاري بهذه الترجمة واللتين قبلها استيفاء ثمرات الأذان، فالأولى فيها فضل التأذين لقصد الاجتماع للصلاة، والثانية فيها فضل أذان المنفرد لإيداع الشهادة له بذلك، والثالثة فيها حقن الدماء عند وجود الأذان‏.‏

قال‏:‏ وإذا انتفت عن الأذان فائدة من هذه الفوائد لم يشرع إلا في حكايته عند سماعه، ولهذا عقبه بترجمة ما يقول إذا سمع المنادي ا ه‏.‏

كلامه ملخصا‏.‏

ووجه الاستدلال للترجمة من حديث الباب ظاهر، وباقي المتن من متعلقات الجهاد‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا قَوْمًا لَمْ يَكُنْ يَغْزُو بِنَا حَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا كَفَّ عَنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ عَلَيْهِمْ قَالَ فَخَرَجْنَا إِلَى خَيْبَرَ فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ لَيْلًا فَلَمَّا أَصْبَحَ وَلَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا رَكِبَ وَرَكِبْتُ خَلْفَ أَبِي طَلْحَةَ وَإِنَّ قَدَمِي لَتَمَسُّ قَدَمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَخَرَجُوا إِلَيْنَا بِمَكَاتِلِهِمْ وَمَسَاحِيهِمْ فَلَمَّا رَأَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا مُحَمَّدٌ وَاللَّهِ مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ قَالَ فَلَمَّا رَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ

الشرح‏:‏

الحديث قد أورده المصنف في الجهاد بهذا الإسناد وسياقه هناك أتم مما هنا، وسيأتي الكلام على فوائده هناك إن شاء الله تعالى‏.‏

وقد روى مسلم طرفه المتعلق بالأذان وسياقه أوضح، أخرجه من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان، فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار‏"‏‏.‏

قال الخطابي‏:‏ فيه أن الأذان شعار الإسلام، وأنه لا يجوز تركه، ولو أن أهل بلد اجتمعوا على تركه كان للسلطان قتالهم عليه ا ه‏.‏

وهذا أحد أقوال العلماء كما تقدم، وهو أحد الأوجه في المذهب‏.‏

وأغرب ابن عبد البر فقال‏:‏ لا أعلم فيه خلافا، وأن قول أصحابنا من نطق بالتشهد في الأذان حكم بإسلامه إلا إذا كان عيسويا فلا يرد عليه مطلق حديث الباب، لأن العيسوية طائفة من اليهود حدثت في آخر دولة بني أمية فاعترفوا بأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن إلى العرب فقط، وهم منسوبون إلى رجل يقال له أبو عيسى أحدث لهم ذلك‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع في سياق حديث الباب ‏"‏ لم يكن يغر بنا ‏"‏ واختلف في ضبطه، ففي رواية المستملي ‏"‏ يغر ‏"‏ من الإغارة مجزوم على أنه بدل من قوله يكن‏.‏

وفي رواية الكشميهني ‏"‏ يغد ‏"‏ بإسكان الغين وبالدال المهملة من الغدو‏.‏

وفي رواية كريمة ‏"‏ يغزو ‏"‏ بزاي بعدها واو من الغزو‏.‏

وفي رواية الأصيلي ‏"‏ يغير ‏"‏ كالأول لكن بإثبات الياء‏.‏

وفي رواية غيرهم بضم أوله وإسكان الغين من الإغراء، ورواية مسلم تشهد لرواية من رواه من الإغارة، والله أعلم‏.‏

*3*باب مَا يَقُولُ إِذَا سَمِعَ الْمُنَادِي

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما يقول إذا سماع المنادي‏)‏ هذا لفظ رواية أبي داود الطيالسي عن ابن المبارك عن يونس عن الزهري في حديث الباب، وآثر المصنف عدم الجزم بحكم ذلك لقوة الخلاف فيه كما سيأتي‏.‏

ثم ظاهر صنيعه يقتضي ترجيح ما عليه الجمهور، وهو أن يقول مثل ما يقول من الأذان إلا الحيعلتين، لأن حديث أبي سعيد الذي بدأ به عام، وحديث معاوية الذي تلاه به يخصصه، والخاص مقدم على العام‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا سَمِعْتُمْ النِّدَاءَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عطاء بن زيد‏)‏ في رواية ابن وهب عن مالك ويونس عن الزهري أن عطاء بن يزيد أخبره، أخرجه أبو عوانة‏.‏

‏(‏فائدة‏)‏ ‏:‏ اختلف على الزهري في إسناد هذا الحديث، وعلى مالك أيضا، لكنه اختلاف لا يقدح في صحته، فرواه عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة أخرجه النسائي وابن ماجه‏.‏

وقال أحمد بن صالح وأبو حاتم وأبو داود والترمذي‏:‏ حديث مالك ومن تابعه أصح، ورواه يحيى القطان عن مالك عن الزهري عن السائب بن يزيد أخرجه مسدد في مسنده عنه‏.‏

وقال الدار قطني‏:‏ إنه خطأ والصواب الرواية الأولى، وفيه اختلاف آخر دون ما ذكر لا نطيل به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا سمعتم‏)‏ ظاهره اختصاص الإجابة بمن يسمع حتى لو رأى المؤذن على المنارة مثلا في الوقت وعلم أنه يؤذن لكن لم يسمع أذانه لبعد أو صمم لا تشرع له المتابعة، قاله النووي في شرح المهذب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقولوا مثل ما يقول المؤذن‏)‏ ادعى ابن وضاح أن قول ‏"‏ المؤذن ‏"‏ مدرج، وأن الحديث انتهى عند قوله ‏"‏ مثل ما يقول‏"‏‏.‏

وتعقب بأن الإدراج لا يثبت بمجرد الدعوى، وقد اتفقت الروايات في الصحيحين والموطأ على إثباتها، ولم يصب صاحب العمدة في حذفها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما يقول‏)‏ قال الكرماني‏:‏ قال ‏"‏ ما يقول ‏"‏ ولم يقل مثل ما قال ليشعر بأنه يجيبه بعد كل كلمة مثل كلمتها‏.‏

قلت‏:‏ والصريح في ذلك ما رواه النسائي من حديث أم حبيبة ‏"‏ أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول كما يقول المؤذن حتى يسكت ‏"‏ وأما أبو الفتح اليعمري فقال‏:‏ ظاهر الحديث أنه يقول مثل ما يقول عقب فراغ المؤذن، لكن الأحاديث التي تضمنت إجابة كل كلمة عقبها دلت على أن المراد المساوقة، يشير إلى حديث عمر بن الخطاب الذي عند مسلم وغيره، فلو لم يجاوبه حتى فرغ استحب له التدارك إن لم يطل الفصل‏.‏

قاله النووي في شرح المهذب بحثا‏.‏

وقد قالوه فيما إذا كان له عذر كالصلاة، وظاهر قوله مثل أنه يقول مثل قوله في جميع الكلمات، لكن حديث عمر أيضا وحديث معاوية الآتي يدلان على أنه يستثنى من ذلك ‏"‏ حي على الصلاة وحي على الفلاح ‏"‏ فيقول بدلهما ‏"‏ لا حول ولا قوة إلا بالله ‏"‏ كذلك استدل به ابن خزيمة وهو المشهور عند الجمهور‏.‏

وقال ابن المنذر يحتمل أن يكون ذلك من الاختلاف المباح فيقول تارة كذا وتارة كذا، وحكى بعض المتأخرين عن بعض أهل الأصول أن الخاص والعام إذا أمكن الجمع بينهما وجب إعمالهما، قال‏:‏ فلم لا يقال يستحب للسامع أن يجمع بين الحيعلة والحوقلة، وهو وجه عند الحنابلة‏.‏

أجيب عن المشهور من حيث المعنى بأن الأذكار الزائدة على الحيعلة يشترك السامع والمؤذن في ثوابها، وأما الحيعلة فمقصودها الدعاء إلى الصلاة، وذلك يحصل من المؤذن، فعوض السامع عما يفوته من ثواب الحيعلة بثواب الحوقلة‏.‏

ولقائل أن يقول‏:‏ يحصل للمجيب الثواب لامتثاله الأمر، ويمكن أن يزداد استيقاظا وإسراعا إلى القيام إلى الصلاة إذا تكرر على سمعه الدعاء إليها من المؤذن ومن نفسه‏.‏

ويقرب من ذلك الخلاف في قول المأموم ‏"‏ سمع الله لمن حمده ‏"‏ كما سيأتي في موضعه‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ معنى الحيعلتين هلم بوجهك وسريرتك إلى الهدى عاجلا والفوز بالنعيم آجلا، فناسب أن يقول‏:‏ هذا أمر عظيم لا أستطيع مع ضعفي القيام به إلا إذا وفقني الله بحوله وقوته‏.‏

ومما لوحظت فيه المناسبة ما نقل عيد الرزاق عن ابن جريج قال‏:‏ حدثت أن الناس كانوا ينصتون للمؤذن إنصاتهم للقراءة فلا يقول شيئا إلا قالوا مثله، حتى إذا قال ‏"‏ حي على الصلاة ‏"‏ قالوا ‏"‏ لا حول ولا قوة إلا بالله ‏"‏ وإذا قال ‏"‏ حي على الفلاح ‏"‏ قالوا ‏"‏ ما شاء الله‏"‏‏.‏

انتهى‏.‏

وإلى هذا صار بعض الحنفية‏.‏

وروى ابن أبي شيبة مثله عن عثمان، وروى عن سعيد بن جبير قال‏:‏ يقول في جواب الحيعلة‏:‏ سمعنا وأطعنا‏.‏

ووراء ذلك وجوه من الاختلاف أخرى، قيل لا يجيبه إلا في التشهدين فقط، وقيل هما والتكبير، وقيل يضيف إلى ذلك الحوقلة دون ما في آخره، وقيل مهما أتى به مما يدل على التوحيد والإخلاص كفاه وهو اختيار الطحاوي، وحكوا أيضا خلافا‏:‏ هل يجيب في الترجيع أو لا، وفيما إذا أذن مؤذن آخر هل يجيبه بعد إجابته للأول أو لا‏.‏

قال النووي‏:‏ لم أر فيه شيئا لأصحابنا‏.‏

وقال ابن عبد السلام‏:‏ يجيب كل واحد بإجابة لتعدد السبب، وإجابة الأول أفضل، إلا في الصبح والجمعة فإنهما سواء لأنهما مشروعان‏.‏

وفي الحديث دليل على أن لفظ المثل لا يقتضي المساواة من كل جهة، لأن قوله مثل ما يقول لا يقصد به رفع الصوت المطلوب من المؤذن، كذا قيل وفيه بحث، لأن المماثلة وقعت في القول لا في صفته، والفرق بين المؤذن والمجيب في ذلك أن المؤذن مقصوده الإعلام فاحتاج إلى رفع الصوت، والسامع مقصوده ذكر الله فيكتفي بالسر أو الجهر لا مع الرفع‏.‏

نعم لا يكفيه أن يجريه على خاطره من غير تلفظ لظاهر الأمر بالقول‏.‏

وأغرب ابن المنير فقال‏:‏ حقيقة الأذان جميع ما يصدر عن المؤذن من قول وفعل وهيئة‏.‏

وتعقب بأن الأذان معناه الإعلام لغة، وخصه الشرع بألفاظ مخصوصة في أوقات مخصوصة فإذا وجدت الأذان، وما زاد على ذلك من قول أو فعل أو هيئة يكون من مكملاته صلى الله عليه وسلم ويوجد الأذان من دونها‏.‏

ولو كان على ما أطلق لكان ما أحدث من التسبيح قبل الصبح وقبل الجمعة ومن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من جملة الأذان، وليس كذلك لا لغة ولا شرعا‏.‏

واستدل به على جواز إجابة المؤذن في الصلاة عملا بظاهر الأمر، ولأن المجيب لا يقصد المخاطبة، وقيل يؤخر الإجابة حتى يفرغ لأن في الصلاة شغلا، وقيل يجيب إلا في الحيعلتين لأنهما كالخطاب للآدميين والباقي من ذكر الله فلا يمنع‏.‏

لكن قد يقال‏:‏ من يبدل الحيعلة بالحوقلة لا يمنع، لأنها من ذكر الله، قاله ابن دقيق العيد‏.‏

وفرق ابن عبد السلام في فتاويه بين ما إذا كان يقرأ الفاتحة فلا يجيب بناء على وجوب موالاتها وإلا فيجيب، وعلى هذا إن أجاب في الفاتحة استأنف، وهذا قاله بحثا، والمشهور في المذهب كراهة الإجابة في الصلاة بل يؤخرها حتى يفرغ، وكذا في حال الجماع والخلاء، لكن إن أجاب بالحيعلة بطلت كذا أطلقه كثير منهم، ونص الشافعي في الأم على عدم فساد الصلاة بذلك، واستدل به على مشروعية إجابة المؤذن في الإقامة، قالوا‏:‏ إلا في كلمتي الإقامة فيقول ‏"‏ أقامها الله وأدامها ‏"‏ وقياس إبدال الحيعلة بالحوقلة في الأذان أن يجيء هنا، لكن قد يفرق بأن الأذان إعلام عام فيعسر على الجميع أن يكونوا دعاة إلى الصلاة، والإقامة إعلام خاص وعدد من يسمعها محصور فلا يعسر أن يدعو بعضهم بعضا‏.‏

واستدل به على وجوب إجابة المؤذن، حكاه الطحاوي عن قوم من السلف وبه قال الحنفية وأهل الظاهر وابن وهب، واستدل للجمهور بحديث أخرجه مسلم وغيره ‏"‏ إنه صلى الله عليه وسلم سمع مؤذنا فلما كبر قال‏:‏ على الفطرة، فلما تشهد قال‏:‏ خرج من النار ‏"‏ قال‏:‏ فلما قال عليه الصلاة والسلام غير ما قال المؤذن علمنا أن الأمر بذلك للاستحباب‏.‏

وتعقب بأنه ليس في الحديث أنه لم يقل مثل ما قال، فيجوز أن يكون قاله ولم ينقله الراوي اكتفاء بالعادة ونقل القول الزائد، وبأنه يحتمل أن يكون ذلك وقع قبل صدور الأمر، ويحتمل أن يكون الرجل لما أمر لم يرد أن يدخل نفسه في عموم من خوطب بذلك، قيل ويحتمل أن يكون الرجل لم يقصد الأذان لكن يرد هذا الأخير أن في بعض طرقه أنه حضرته الصلاة

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ يَوْمًا فَقَالَ مِثْلَهُ إِلَى قَوْلِهِ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا هشام‏)‏ هو الدستوائي ويحيى هو ابن أبي كثير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنه سمع معاوية يوما فقال مثله - إلى قوله - وأشهد أن محمدا رسول الله‏)‏ هكذا أورد المتن هنا مختصرا، وقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن هشام ولفظه ‏"‏ كنا عند معاوية فنادى المنادي بالصلاة فقال مثل ما قال، ثم قال‏:‏ هكذا سمعت نبيكم ‏"‏ ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا إسحاق أنبأنا وهب بن جرير حدثنا هشام عن يحيى نحوه‏.‏

قال يحيى‏:‏ وحدثني بعض إخواننا ‏"‏ أنه لما قال حي على الصلاة قال‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

وقال‏:‏ هكذا سمعت نبيكم يقول‏"‏‏.‏

انتهى‏.‏

فأحال بقوله نحوه على الذي قبله، وقد عرفت أنه لم يسق لفظه كله، وقد وقع لنا هذا الحديث من طرق عن هشام المذكور تاما، منها للإسماعيلي من طريق معاذ ابن هشام عن أبيه عن يحيى حدثنا محمد بن إبراهيم حدثنا عيسى بن طلحة قال ‏"‏ دخلنا على معاوية، فنادى مناد بالصلاة، فقال‏:‏ الله أكبر الله أكبر، فقال معاوية الله أكبر الله أكبر‏.‏

فقال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله‏.‏

فقال معاوية‏:‏ وأنا أشهد أن لا إله إلا الله‏.‏

فقال‏:‏ أشهد أن محمدا رسول الله، فقال معاوية‏:‏ وأنا أشهد أن محمدا رسول الله‏"‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى نَحْوَهُ قَالَ يَحْيَى وَحَدَّثَنِي بَعْضُ إِخْوَانِنَا أَنَّهُ قَالَ لَمَّا قَالَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ قَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ وَقَالَ هَكَذَا سَمِعْنَا نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ

الشرح‏:‏

قال يحيى فحدثني صاحب لنا ‏"‏ أنه لما قال حي على الصلاة قال‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

ثم قال هكذا سمعنا نبيكم‏"‏‏.‏

انتهى‏.‏

فاشتمل هذا السياق على فوائد‏:‏ أحدها تصريح يحيى بن أبي كثير بالسماع له من محمد بن إبراهيم فأمن ما يخشى من تدليسه، ثانيها بيان ما اختصر من روايتي البخاري، ثالثها أن قوله في الرواية الأولى ‏"‏ أنه سمع معاوية يوما فقال مثله ‏"‏ فيه حذف تقديره أنه سمع معاوية يسمع المؤذن يوما فقال مثله، رابعها أن الزيادة في رواية وهب بن جرير لم ينفرد بها لمتابعة معاذ بن هشام له، خامسها أن قوله ‏"‏ قال يحيى ‏"‏ ليس تعليقا من البخاري كما زعمه بعضهم، بل هو عنده بإسناد إسحاق‏.‏

وأبدى الحافظ قطب الدين احتمالا أنه عنده بإسنادين، ثم إن إسحاق هذا لم ينسب وهو ابن راهويه، كذلك صرح به أبو نعيم في مستخرجه، وأخرجه من طريق عبد الله بن شيرويه عنه‏.‏

وأما المبهم الذي حدث يحيى به عن معاوية فلم أقف في شيء من الطرق على تعيينه، وحكى الكرماني عن غيره أن المراد به الأوزاعي، وفيه نظر، لأن الظاهر أن قائل ذلك ليحيى حدثه به عن معاوية، وأين عصر الأوزاعي من عصر معاوية‏؟‏ وقد غلب على ظني أنه علقمة ابن وقاص إن كان يحيى بن أبي كثير أدركه، وإلا فأحد ابنيه عبد الله بن علقمة أو عمرو بن علقمة، وإنما قلت ذلك لأنني جمعت طرقه عن معاوية فلم أجد هذه الزيادة في ذكر الحوقلة إلا من طريقين‏:‏ أحدهما عن نهشل التميمي عن معاوية وهو في الطبراني بإسناد واه، والآخر عن علقمة بن وقاص عنه، وقد أخرجه النسائي واللفظ له، وابن خزيمة وغيرهما من طريق ابن جريج أخبرني عمرو بن يحيى أن عيسى بن عمرو أخبره عن عبد الله بن علقمة بن وقاص عن أبيه قال ‏"‏ إني لعند معاوية إذ أذن مؤذن، فقال معاوية كما قال، حتى إذا قال حي على الصلاة قال‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله، فلما قال حي على الفلاح قال‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

وقال بعد ذلك ما قال المؤذن، ثم قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك ‏"‏ ورواه ابن خزيمة أيضا من طريق يحيى القطان عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبيه عن جده قال‏:‏ كنت عند معاوية فذكر مثله، وأوضح سياقا منه، وتبين بهذه الرواية أن ذكر الحوقلة في جواب حي على الفلاح اختصر في حديث الباب، بخلاف ما تمسك به بعض من وقف مع ظاهره، وأن ‏"‏ إلى ‏"‏ في قوله في الطريق الأولى ‏"‏ فقال مثل قوله إلى أشهد أن محمدا رسول الله ‏"‏ بمعنى ‏"‏ مع ‏"‏ كقوله تعالى ‏(‏ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم‏)‏ ‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ أخرج مسلم من حديث عمر بن الخطاب نحو حديث معاوية، وإنما لم يخرجه البخاري لاختلاف وقع في وصله وإرساله كما أشار إليه الدار قطني، ولم يخرج مسلم حديث معاوية لأن الزيادة المقصودة منه ليست على شرط الصحيح للمبهم الذي فيها، لكن إذا انضم أحد الحديثين إلى الآخر قوي جدا‏.‏

وفي الباب أيضا عن الحارث بن نوفل الهاشمي وأبي رافع - وهما في الطبراني وغيره - وعن أنس في البزار وغيره، والله تعالى أعلم‏.‏

*3*باب الدُّعَاءِ عِنْدَ النِّدَاءِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الدعاء عند النداء‏)‏ أي عند تمام النداء، وكأن المصنف لم يقيده بذلك اتباعا لإطلاق الحديث كما سيأتي البحث فيه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثني علي بن عياش‏)‏ بالياء الأخيرة والشين المعجمة وهو الحمصي من كبار شيوخ البخاري ولم يلقه من الأئمة الستة غيره، وقد حدث عنه القدماء بهذا الحديث، أخرجه أحمد في مسنده عنه، ورواه علي بن المديني شيخ البخاري مع تقدمه على أحمد عنه، أخرجه الإسماعيلي من طريقه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن محمد بن المنكدر‏)‏ ذكر الترمذي أن شعيبا تفرد به عن ابن المنكدر فهو غريب مع صحته، وقد توبع ابن المنكدر عليه عن جابر أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق أبي الزبير عن جابر نحوه، ووقع في زوائد الإسماعيلي‏:‏ أخبرني ابن المنكدر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من قال حين يسمع النداء‏)‏ أي الأذان، واللام للعهد، ويحتمل أن يكون التقدير‏:‏ من قال حين يسمع نداء المؤذن‏.‏

وظاهره أنه يقول الذكر المذكور حال سماع الأذان ولا يتقيد بفراغه، لكن يحتمل أن يكون المراد من النداء تمامه، إذ المطلق يحمل على الكامل، ويؤيده حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند مسلم بلفظ ‏"‏ قولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، ثم سلوا الله لي الوسيلة ‏"‏ ففي هذا أن ذلك يقال عند فراغ الأذان‏.‏

واستدل الطحاوي بظاهر حديث جابر على أنه لا يتعين إجابة المؤذن بمثل ما يقول، بل لو اقتصر على الذكر المذكور كفاه‏.‏

وقد بين حديث عبد الله بن عمرو المراد، وأن الحين محمول على ما بعد الفراغ، واستدل به ابن بزيزة على عدم وجوب ذلك لظاهر إيراده، لكن لفظ الأمر في رواية مسلم قد يتمسك به من يدعي الوجوب، وبه قال الحنفية وابن وهب من المالكية وخالف الطحاوي أصحابه فوافق الجمهور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رب هذه الدعوة‏)‏ بفتح الدال، زاد البيهقي من طريق محمد بن عون عن علي بن عياش ‏"‏ اللهم إني أسألك بحق هذه الدعوة التامة ‏"‏ والمراد بها دعوة التوحيد كقوله تعالى ‏(‏له دعوة الحق‏)‏ وقيل لدعوة التوحيد ‏"‏ تامة ‏"‏ لأن الشركة نقص‏.‏

أو التامة التي لا يدخلها تغيير ولا تبديل، بل هي باقية إلى يوم النشور، أو لأنها هي التي تستحق صفة التمام وما سواها فمعرض للفساد‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ وصفت بالتامة لأن فيها أتم القول وهو ‏"‏ لا إله إلا الله‏"‏‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ من أوله إلى قوله ‏"‏ محمد رسول الله ‏"‏ هي الدعوة التامة، والحيعلة هي الصلاة القائمة في قوله يقيمون الصلاة، ويحتمل أن يكون المراد بالصلاة الدعاء وبالقائمة الدائمة من قام على الشيء إذا داوم عليه، وعلى هذا فقوله ‏"‏ والصلاة القائمة ‏"‏ بيان للدعوة التامة، ويحتمل أن يكون المراد بالصلاة المعهودة المدعو إليها حينئذ وهو أظهر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الوسيلة‏)‏ هي ما يتقرب به إلى الكبير، يقال توسلت أي تقربت، وتطلق على المنزلة العلية، ووقع ذلك في حديث عبد الله بن عمرو عند مسلم بلفظ ‏"‏ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ‏"‏ الحديث، ونحوه للبزار عن أبي هريرة، ويمكن ردها إلى الأول بأن الواصل إلى تلك المنزلة قريب من الله فتكون كالقربة التي يتوسل بها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والفضيلة‏)‏ أي المرتبة الزائدة على سائر الخلائق، ويحتمل أن تكون منزلة أخرى أو تفسيرا للوسيلة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مقاما محمودا‏)‏ أي يحمد القائم فيه، وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات، ونصب على الظرفية، أي ابعثه يوم القيامة فأقمه مقاما محمودا، أو ضمن ابعثه معنى أقمه، أو على أنه مفعول به ومعنى ابعثه أعطه، ويجوز أن يكون حالا أي ابعثه ذا مقام محمود‏.‏

قال النووي‏:‏ ثبتت الرواية بالتنكير وكأنه حكاية للفظ القرآن‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ إنما نكره لأنه أفخم وأجزل، كأنه قيل مقاما أي مقاما محمودا بكل لسان‏.‏

قلت‏:‏ وقد جاء في هذه الرواية بعينها من رواية علي بن عياش شيخ البخاري فيه بالتعريف عند النسائي، وهي في صحيح ابن خزيمة وابن حبان أيضا، وفي الطحاوي والطبراني في الدعاء والبيهقي، وفيه تعقب على من أنكر ذلك كالنووي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الذي وعدته‏)‏ زاد في رواية البيهقي ‏"‏ إنك لا تخلف الميعاد ‏"‏ وقال الطيبي‏:‏ المراد بذلك قوله تعالى ‏(‏عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا‏)‏ وأطلق عليه الوعد لأن عسى من الله واقع كما صح عن ابن عيينة وغيره، والموصول إما بدل أو عطف بيان أو خبر مبتدأ محذوف وليس صفة للنكرة، ووقع في رواية النسائي وابن خزيمة وغيرهما ‏"‏ المقام المحمود ‏"‏ بالألف واللام فيصح وصفه بالموصول والله أعلم‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ والأكثر على أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة، وقيل إجلاسه على العرش، وقيل على الكرسي، وحكى كلا من القولين عن جماعة، وعلى تقدير الصحة لا ينافي الأول لاحتمال أن يكون الإجلاس علامة الإذن في الشفاعة، ويحتمل أن يكون المراد بالمقام المحمود الشفاعة كما هو مشهور وأن يكون الإجلاس هي المنزلة المعبر عنها بالوسيلة أو الفضيلة‏.‏

ووقع في صحيح ابن حبان من حديث كعب بن مالك مرفوعا ‏"‏ يبعث الله الناس، فيكسوني ربي حلة خضراء، فأقول ما شاء الله أن أقول ‏"‏ فذلك المقام المحمود، ويظهر أن المراد بالقول المذكور هو الثناء الذي يقدمه بين يدي الشفاعة‏.‏

ويظهر أن المقام المحمود هو مجموع ما يحصل له في تلك الحالة، ويشعر قوله في آخر الحديث ‏"‏ حلت له شفاعتي ‏"‏ بأن الأمر المطلوب له الشفاعة، والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حلت له‏)‏ أي استحقت ووجبت أو نزلت عليه، يقال حل يحل بالضم إذا نزل، واللام بمعنى على، ويؤيده رواية مسلم ‏"‏ حلت عليه‏"‏‏.‏

ووقع في الطحاوي حديث ابن مسعود ‏"‏ وجبت له ‏"‏ ولا يجوز أن يكون حلت من الحل لأنها لم تكن قبل ذلك محرمة‏.‏

قوله ‏(‏شفاعتي‏)‏ استشكل بعضهم جعل ذلك ثوابا لقائل ذلك مع ما ثبت من أن الشفاعة للمذنبين، وأجيب بأن له صلى الله عليه وسلم شفاعات أخرى‏:‏ كإدخال الجنة بغير حساب، وكرفع الدرجات فيعطى كل أحد ما يناسبه‏.‏

ونقل عياض عن بعض شيوخه أنه كان يرى اختصاص ذلك بمن قاله مخلصا مستحضرا إجلال النبي صلى الله عليه وسلم، لا من قصد بذلك مجرد الثواب ونحو ذلك، وهو تحكم غير مرضي، ولو كان أخرج الغافل اللاهي لكان أشبه‏.‏

وقال المهلب‏:‏ في الحديث الحض على الدعاء في أوقات الصلوات لأنه حال رجاء الإجابة، والله أعلم‏.‏

*3*باب الِاسْتِهَامِ فِي الْأَذَانِ

وَيُذْكَرُ أَنَّ أَقْوَامًا اخْتَلَفُوا فِي الْأَذَانِ فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ سَعْدٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الاستهام في الأذان‏)‏ أي الاقتراع، ومنه قوله تعالى ‏(‏فساهم فكان من المدحضين‏)‏ قال الخطابي وغيره‏:‏ قيل له الاستهام لأنهم كانوا يكتبون أسماءهم على سهام إذا اختلفوا في الشيء فمن خرج سهمه غلب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويذكر أن قوما اختلفوا‏)‏ أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي من طريق أبي عبيد كلاهما عن هشيم عن عبد الله بن شبرمة قال ‏"‏ تشاح الناس في الأذان بالقادسية فاختصموا إلى سعد بن أبي وقاص، فأقرع بينهم‏.‏

وهذا منقطع‏.‏

وقد وصله سيف بن عمر في الفتوح والطبري من طريقه عنه عن عبد الله ابن شبرمة عن شقيق - وهو أبو وائل - قال ‏"‏ افتتحنا القادسية صدر النهار، فتراجعنا وقد أصيب المؤذن ‏"‏ فذكره وزاد ‏"‏ فخرجت القرعة لرجل منهم فأذن‏"‏‏.‏

‏(‏فائدة‏)‏ ‏:‏ القادسية مكان بالعراق معروف، نسب إلى قادس رجل نزل به، وحكى الجوهري أن إبراهيم عليه السلام قدس على ذلك المكان فلذلك صار منزلا للحاج، وكانت به وقعة للمسلمين مشهورة مع الفرس وذلك في خلافة عمر سنة خمس عشرة، وكان سعد يومئذ الأمير على الناس‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن سمي‏)‏ بضم أوله بلفظ التصغير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مولى أبي بكر‏)‏ أي ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لو يعلم الناس‏)‏ قال الطيبي‏:‏ وضع المضارع موضع الماضي ليفيد استمرار العلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما في النداء‏)‏ أي الأذان، وهي رواية بشر بن عمر عن مالك عند السراج‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والصف الأول‏)‏ زاد أبو الشيخ في رواية له من طريق الأعرج عن أبي هريرة ‏"‏ من الخير والبركة ‏"‏ وقال الطيبي‏:‏ أطلق مفعول يعلم وهو ما ولم يبين الفضيلة ما هي ليفيد ضربا من المبالغة وأنه مما لا يدخل تحت الوصف، والإطلاق إنما هو في قدر الفضيلة وإلا فقد بينت في الرواية الأخرى بالخير والبركة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم لم يجدوا‏)‏ في رواية المستملي والحموي ‏"‏ ثم لا يجدون ‏"‏ وحكى الكرماني أن في بعض الروايات ‏"‏ ثم لا يجدوا ‏"‏ ووجهه بجواز حذف النون تخفيفا، ولم أقف على هذه الرواية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلا أن يستهموا‏)‏ أي لم يجدوا شيئا من وجوه الأولوية، أما في الأذان فبأن يستووا في معرفة الوقت وحسن الصوت ونحو ذلك من شرائط المؤذن وتكملاته، وأما في الصف الأول فبأن يصلوا دفعة واحدة، ويستووا في الفضل فيقرع بينهم، إذا لم يتراضوا فيما بينهم في الحالين‏.‏

واستدل به بعضهم لمن قال بالاقتصار على مؤذن واحد، وليس بظاهر لصحة استهام أكثر من واحد في مقابلة أكثر من واحد، ولأن الاستهام على الأذان يتوجه من جهة التولية من الإمام لما فيه من المزية، وزعم بعضهم أن المراد بالاستهام هنا الترامي بالسهام، وأنه أخرج مخرج المبالغة‏.‏

واستأنس بحديث لفظه ‏"‏ لتجالدوا عليه بالسيوف ‏"‏ لكن الذي فهمه البخاري منه أولى، ولذلك استشهد له بقصة سعد، ويدل عليه رواية لمسلم ‏"‏ لكانت قرعة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عليه‏)‏ أي على ما ذكر ليشمل الأمرين الأذان والصف الأول، وبذلك يصح تبويب المصنف‏.‏

وقال ابن عبد البر‏:‏ الهاء عائدة على الصف الأول لا على النداء، وهو حق الكلام، لأن الضمير يعود لأقرب مذكور‏.‏

ونازعه القرطبي وقال‏:‏ إنه يلزم منه أن يبقى النداء ضائعا لا فائدة له، قال‏:‏ والضمير يعود على معنى الكلام المتقدم، ومثله قوله تعالى ‏(‏ومن يفعل ذلك يلق أثاما‏)‏ أي جميع ذلك‏.‏

قلت‏:‏ وقد رواه عبد الرزاق عن مالك بلفظ ‏"‏ لاستهموا عليهما ‏"‏ فهذا مفصح بالمراد من غير تكلف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏التهجير‏)‏ أي التبكير إلى الصلاة، قال الهروي‏:‏ وحمله الخليل وغيره على ظاهره فقالوا‏:‏ المراد الإتيان إلى صلاة الظهر في أول الوقت، لأن التهجير مشتق من الهاجرة وهي شدة الحر نصف النهار وهو أول وقت الظهر، وإلى ذلك مال المصنف كمأ سيأتي، ولا يرد على ذلك مشروعية الإبراد لأنه أريد به الرفق، وأما من ترك قائلته وقصد إلى المسجد لينتظر الصلاة فلا يخفى ما له من الفضل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لاستبقوا إليه‏)‏ قال ابن أبي جمرة المراد بالاستباق معنى لا حسا، لأن المسابقة على الأقدام حسا تقتضي السرعة في المشي وهو ممنوع منه‏.‏

انتهى‏.‏

وسيأتي الكلام على بقية الحديث في ‏"‏ باب فضل صلاة العشاء في الجماعة ‏"‏ قريبا، ويأتي الكلام على المراد بالصف الأول في أواخر أبواب الإمامة إن شاء الله تعالى‏.‏